آفاق واستطرادات

في هذه الفقرة، نتجاوز أفق الأنشطة والمسارات المحددة إلى آفاق نظرية عامة واستطرادات أخرى، فهذا القسم يعبّر أكثر عن أشياء نرى أن من الأفضل (وربما المهم) اصطحابها ونحن نعمل على تحسين أوضاع وأداء مركز البحوث خاصة والقطاع الصناعي السوداني عموما.

الارتباط مع أهداف التنمية المستدامة 2030

في العام 2015 تبنّى المجتمع الدولي، بريادة هيئة الأمم المتحدة، ما سمّي بأهداف التنمية المستدامة، والمعروفة رسميًا باسم “تحويل عالمنا (جدول أعمال 2030 للتنمية المستدامة)” وهي عبارة عن مجموعة من 17 هدفًا مذكورة في القرارات المعنيّة للجمعية العامة للأمم المتحدة. وتحت كل هدف من الأهداف هنالك مقاصد أو غايات تبلغ في مجملها 169، ولكل منها 1-3 من المؤشرات المستخدمة لقياس التقدم المحرز نحو بلوغ الأهداف—وإجمالا، هناك 304 مؤشرا لقياس الامتثال لمجمل الأهداف.

وفقا لذلك فإذا نظرنا لأهداف التنمية المستدامة لوجدناها تحوي مجمل المسائل التي تشغل شعوب العالم كافة. وبدون أن نخوض في محتوى تلك الأهداف، ومدى واقعيتها ومدى التقدّم (أو التأخر) الحاصل فيها، يمكن أن نرى لماذا هي حاليا الشغل الشاغل للمؤسسات التنموية والبحثية حول العالم. بالنسبة للسودان، وإذا أردنا أن نكون على اتصال بنّاء بالعالم من أجل أهداف التنمية لدينا، لا بد لنا أن نضع مشاريعنا التنموية وخطابنا التنموي بصيغة ذات علاقة بأهداف التنمية المستدامة.

الهدفان 8 و9 هما، بالترتيب، “العمل اللائق ونمو الاقتصاد؛ والصناعة والابتكار والهياكل الأساسية”، وفي مقاصد كل هدف منهما استفاضة مفيدة. سيعمل المركز على ربط مجمل مهامه ومشاريعه بهذين الهدفين، حتى يوفّر ذلك فرصا أكبر للتعاون الدولي حولها والنظر في فرص تنويع موارد المركز.

الارتباط مع الصناعات التحويلية والطاقة المستدامة

بنفس مستوى الارتباط مع أهداف التنمية الاستدامة، على مستوى جميع الوحدات والأنشطة، يرتبط المركز كذلك مع الصناعات التحويلية والطاقة المستدامة، بمعنى أن جميع وحداته وأنشطته سيكون لها سهم واهتمام في هذين المجالين. الصناعات التحويلية من الواضح أنها تغطي قطاعا واسعا يشمل كل المعاهد والمكاتب في هيكل المركز، وكذلك الطاقة المستدامة من الأهمية للصناعة بمكان باعتبارها من أبجديات شروط النشاط الصناعي الفعّال.

التنمية الريفية والصناعات الريفية

كما يعلم معظمنا – نظريا على الأقل – فأهمية الريف في السياق السوداني ممدودة من واقع السودان، وهذا الواقع ممدود من واقع عموم إفريقيا أيضا، حيث يقطن حوالي 70% من السكان في المناطق الريفية، وحيث توجد معظم الموارد الطبيعية، الأساسية، لابتدار مسيرة التنمية (الموارد الزراعية والحيوانية والمعدنية، الخ، إضافة لمورد الطاقة البشرية بطبيعة الحال). تقول المصادر المتعلقة بالسودان إن القطاع الزراعي يشكّل مصدر دخل لـ60% من السودانيين، كما يساهم القطاع الزراعي بـ39% من إجمالي الناتج المحلي. وحسب المسح الصناعي الشامل للسودان 2001 (آخر مسح تم، ونشر في 2005) فإن الصناعات التحويلية من الزراعة (الأغذية والنسيج، إلخ) صاحبة حصة الأسد من الصناعات التحويلية.

لعل هذا القول من البديهيات، لكن الحاجة إليه تكمن في أنه لم يُعمَل به بعد. ما زالت معظم التوجهات التنموية في الدول الفقيرة والنامية، كالسودان، منصبة في نماذج تنمية ذات مركزية حضرية، لا ريفية. ربما السبب الأكبر في ذلك يعود – في عمومه – إلى أن المسؤولين عن تخطيط برامج التنمية، بسبب مؤهلاتهم المهنية/الأكاديمية وبسبب تحكمهم في السلطات (بحق أو بغير حق) ينتمون عموما لفئات حضرية، تستثمر في تمديد نمط الحياة الحضرية ومجمل رخائها. هؤلاء المسؤولون ينتمون للحياة الحضرية سواء بالوراثة أو بالاكتساب، بصورة تجعلهم يتماهون مع الفئات الحضرية ويطمحون في مستقبلهم فيها أكثر. هذا التماهي مع الحياة الحضرية يكمن في امتيازات المعيشة الحضرية على الريفية، خصوصا في البلدان الفقيرة والنامية، فالمراكز الحضرية فيها خدمات أساسية، وبنية تحتية، ووسائل ترفيه، وفرص نشاط اقتصادي متنوع، وإمكانية تحصيل التعليم والوجاهات الاجتماعية، أفضل جدا مما هو متاح في الأرياف (حتى حين تكون تلك الخدمات عموما متدنية في البلاد فهي على العموم تكون أفضل في المراكز الحضرية من الريف). لكن المشكلة تكمن تماما في ذلك المأزق الدائري، وهو أن المعيشة الحضرية أفضل من المعيشة الريفية لأن المعيشة الحضرية تستحوذ على نصيب غير منصف من اهتمام وموارد البلاد والقائمين على البلاد، وعلى حساب الريف، فتكون النتيجة هي نفسها تلك التي تجتذب السواعد والطموحات الخلاقة نحو المراكز الحضرية وبعيدا عن الأرياف.

لكسر تلك الحلقة المدمّرة – حلقة ازدحام المدن بما يفوق طاقتها الاستيعابية وخلو الأرياف بما يهدر طاقتها الإنتاجية – لا بد من التفكير والتنفيذ الجاد بخصوص التنمية الريفية، وذلك يشمل ضمن ما يشمل المشاريع الإنتاجية في الأرياف، ومنها الصناعات، الصغيرة والمتوسطة والكبيرة. ينبغي لمركز البحوث، ولوزارة الصناعة، إيلاء الصناعات في الريف المزيد من الاهتمام، بما يرقى لمكان الأولوية.

استعمال التفكير النظمي

في التفكير النظمي، تُعرّف النظم بأنها “تجمعات وتركيبات من الأشياء – أناس، ذرات، جزيئات، [ماكينات، إجراءات]، إلخ – متصلة ومشتبكة بطريقة تنتج أنماط سلوك خاصة بها مع مرور الزمن. وفي عالمنا المعاصر، معظم القضايا التي تحتاج لحلول مجتمعية وتكنولوجية (أو “تكنوجتماعية”) هي مشاكل نُظُم بنسبة كبيرة. والتفكير النظمي (systems thinking) يساعد في استنطاق هذه المشاكل بصورة أوضح، عبر أدواته الفحصية والنمذجية. لذلك فكثير من المشاكل المستعصية في أوضاعنا المعاصرة تحتاج لمراجعة نظرية وافية للمسلّمات والطرق التي تعوّدنا العمل بها مسبقا.

وفي تقديرنا أن التنمية، ومنها التنمية الصناعية، ربما لا تحتاج لنظريات جديدة، أو مؤسسات ومقاربات جديدة بالضرورة، فهنالك الكثير من تلك النظريات والاقتراحات والتجارب المبتكرة في سبيل التنمية، لكن هي بحاجة إلى “بناء نُظُم” جديدة، لان النظم القديمة فشلت في مجملها وترهّلت، أو استنفدت غرضها أو تجاوزتها المرحلة التاريخية (بسبب تغيّر الظروف والتي ربّما ساهمت في تغييرها بلدان نامية سابقا صارت متطورة اليوم). وبناء النُظُم يقتضي فهم طبيعة الظاهرة التي نتعامل معها، بأصعدتها المتعددة والمتشابكة، واستعمال تركيب مناسب من كمّ النظريات والمقاربات والمؤسسات المقنعة أو الناجحة الموجودة حاليا (best practices). بناء النظم ذلك يكون عملا فكريا في الغالب، قبل التطبيق، لكنه قريب أكثر للوعي العملي ويستفاد منه في التخطيط والتطبيق الواقعي، كما هو قابل للمراجعة والتعديل بحسب تداخل عناصر النظام النمائي ومحرّكاته.